الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة من جماعة الاخوان إلى تنظيم الدولة الإسلامية للدكتور عبيد خليفي

سهيل المديمغ
محام وباحث

 

في احاطة بكتاب "الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة، (من جماعة الاخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية)، اعتبر المؤلف الدكتور عبيد خليفي أن تجربته السجنية في انتفاضة الحوض المنجمي 2008 سمحت له بالحوار مع "جهاديين" وهوما قاده لمحاولة فهم هذه الظاهرة باعتباره الباحث الجامعي المتخصص في الفكر الإسلامي والجماعات الإسلامية الجهادية فكانت له عديد البحوث حول الظاهرة.

 

"الله أكبر" تتردد معلنة نشوة الدم والجماعات التي تتبنى صحوة السيف تحت راية العقاب تنشر حولها الصدمة والذهول فهو يقين ديني مطلق -عنيف، أهوج - يملأ أنهارا من دم،فهل كان الفكر / التفكير المرتبك بعقل كذلك مرتبك قد حوّل "النصّ"ومكّن الحرف من محمول عنيف فكان الإرهاب موسوما بالإسلامي أو الجهاد في سبيل الله من منطلق الحلم بالحرية وتبني العقيدة مشروعا لسيادة العالم؟

 

"تتنزّل العلاقة بين الدين والدولة بمنح الأول مشروعية للثاني في حين يمنح الثاني سلطة النفوذ للأول وهو إذا تكامل وتقاطع وانشغال متبادل"

 

الظاهرة التي عالجها الدكتور عبيد خليفي بمحاولة تأطيرها زمانيا أو/ومجاليا جعلته ينتبه للعلاقة الجدلية بين النصوص العقدية وبنيتها التنظيمية.

لاشكّ في اتفاق الأقدمين على أن الدولة الإسلامية إنما هي مُلكٌ وشريعة في مُثلث المجال الجغرافي بين دمشق وبغداد وإسطنبول بعد تهميش النواة، يثرب ومكة ومابينهما. هذا ما يمكن أن نطلق عليه تشكل "قوة الاكراه" عند السلطة الأموية والعباسية يليها المماليك فالدولة العثمانية ومجال الإيالات.

 

''هذا الخط الناظم لتاريخ العلاقة بين الحكم والعقيدة استمر مطبوعا بتفوّق الحكم، فالخلافة تحولت بعد حكم الخلفاء إلى مؤسسة مغتصبة تقوم على التوريث والظلم حتى كان تبرير السكون بمقولة سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"

 

من أبرز محفزات مشروع الخلافة لاستعادة ألقه وتبوء الدعاية له واجهة التجربة الإسلامية ومحاولات التأسيس لاستحضار ما كان من "أمجاد" الماضي المتسم بالقوة والسيطرة والعظمة فكان الهدف هو جهاد متصل بالتحرير، وثورة ضد"الغزاة" و"الطغاة".

 

لعل الإبقاء على النموذج والترويج له هو اختزال لتاريخ الإسلام من خلال المجهود العسكري والحربي الذي حقّق النصر وأسّس الدولة ودعم أركانها وانتشارها عبر الأمصار فتحققت "الإمبراطورية".

 

كان المخيال الإسلامي لدى العموم والعامة يُعاين تمدّد السلطة بشرعية نشر الدعوة عبر الفتوحات والتثبيت وآل إلى تهاوي الحصون الصلبة، حصون إمبراطوريتي الفرس والبيزنط وتحولت الجيوش من عصبية قبلية إلى جيش نظامي موحد خاض تجربة حروب الردة مع سلطة بني أمية، ولما كان دم المسلم على المسلم حرام فإن العقل الحربي (الإسلامي) قد وجد في التكفير مخرجا عقائديا لتجاوز المأزق الأخلاقي.

 

في صفحات بلغت 556 صفحة راود الباحث بمعاول فكرية ومطارق السؤال موسم "الجهاد" الذي شهد تحريضا غير مسبوق لقادة رفعت البنادق واعتلت منابر المقدس تماما كما هو جلي من تصميم الغلاف للشاعر محمد النبهان.

 

الكتاب من نشر وتوزيع مسكلياني للنشر والتوزيع الدار التي اعتبرت المؤلف موسوعة لتاريخ الحركات الجهادية ذات المرجعية السنية من الفتوحات / الغزوات إلى ما عرف بتنظيم الدولة الإسلامية.

 

اعتمد المؤلف في معرض تناوله لمفهوم الجهاد وتأصيل المفهوم، مقاربة تاريخية نقدية مما جعله يكشف أبعاد هذا المفهوم وارتباطه بالثقافة العربية الإسلامية وبتاريخ التشريع الإسلامي المؤسس على النص _ سواء كان قرآنيا أو من السنة النبوية _.

 

قادت أدوات التحليل العلمية الباحث إلى أن "الجهاد" الذي يستند إلى مشروعية دينية "إسلامية" إنما يتغذى من إكراهات المجال الجغرافي والسياقات التاريخية التي بحثت عن الماء والكلأ والنساء بأسلوب الغزو والعنف وفي تطوره ارتبط بالسلطة السياسية والدينية –(الأموية العباسية- العثمانية) فالدولة هي التي تحدد مساراته وترعاه وترسم أهدافه.

 

كشفت دراسة المؤلف وعديد المراجع في الإسلام الفتي عن سيوف ثلاث وقد تكون أربعة شكلت روافد تاريخية لكل ما سينشأ حديثا من استرجاع الحركات الإسلامية لمفهوم الجهاد، منسيف الدعوة، ذلك السيف المخضب غزات / فتوحات النبي إلى سيف الردة الذي واجه الذين منعوا الزكاة وأعلنوا النبوة أو كذلك الذين عادوا إلى ما كانوا عليه قبل إسلامهم.

 

كان الكتاب الموجه لتلك القبائل التي ارتدت واضحا وجليا "فمن دخل في الطاعة وسارع إلى الجماعة، ورجع من المعصية... قبل الله منه... ومن أبى أن يرجع إلى الإسلام..." قتاله أشد القتال وحرقه بالنار إحراقا وسبي عقبه ونسائه واستصفاء أمواله.

 

توجّه سيف الفتح تحت الراية أو اللواء ليعلن فعل الجهاد لإخضاع الآخر للإسلام طوعا أو كُرها، فمن لحظة الخروج إلى حين العودة وقسمة وتوزيع الغنيمة كل ذلك جهاد وفتوحات حولت الجماعة من الدولة إلى الإمبراطورية لتفرز مع تقدم السنون تعدد  "الأنا" العربي والأعجمي بكل مناقبه ومزاياه وتناقضاته وربما صراعاته الخفية والمعلنة.

 

لم تكن السيوف على تعددها مراحل تاريخية منضبطة بل تتداخل كما هو سيف الفتنة تلك المرحلة التي اتسمت بالاغتيالات السياسية والتشيع للرايات المختلفة على السلطة واستغلال مقولات واجتهادات تسوق لهذا القائد أو ذاك وقد اتخذ المجال الجغرافي كذلك تمايزا فعادت البصرة تعادي الكوفة والكوفة تعادي البصرة والشام... وتعددت المعارك لتشهد على دمويتها واقعة الجمل وواقعة صفين وواقعة النهروان.

 

اتسمت حروب الفتنة عن الفتوحات بشدة الوحشية وبقساوة لا مثيل لها بلغت أشدها في واقعة النهروان ولعل تلك المعارك قد وجدت في بذور التكفير ملجأ لتبرير ذلك القتل وتلك الوحشية حتى أن "عمار بن ياسر" قد لخص هذا التطور الخطير في معركة صفينوهو في معسكر علي بن أبي طالب بالقول: "نحن ضربناكم على تنزيله... فاليوم نضربكم على تأويله... أو يرجع الحق إلى سبيله".

 

إن الكامن في بطن التاريخ من ملاحم ومعارك واقتتال كله مخزون ملائم لما ستنشأ عليه الحركات الإسلامية الحديثة ورجوعها إلى ذلك الماضي لتنهل منه حسب حاجاتها بما يساعدها على وضع المقدمات الضرورية لتبرير كل سلوك أو توجه، فالسيوف كانت كذلك موروثا موثوقا.

 

تمكن الباحث الدكتور عبيد خليفي من تأكيد ملامح أجيال جهادية ثلاث فجيل النهضة ارتبط ظهوره بموجات الاستعمار الغربي للدول العربية الإسلامية. جيل أسس لمفهوم جهاد الفكر والعقل باعتماد التنوير والتحفيز لتطوير المجتمعات وكأن الأمر يتعلق بمحاكاة المجتمعات لدى الغرب والبعد التنويري بها وهنا جعل مفهوم الجهاد خالي من دوافع القتال والغزو لأهل الشرك أو الكفر فكان هؤلاء المصلحون يتبنون مكافحة التخلف والفقر والتخلص من المؤسسة الدينية التقليدية على غرار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد العزيز الثعالبي، غير أن الأمر تطور إلى جهاد السيف والدعوى والجماعة والدولة مع "أبو الأعلى المودودي" وحسن البنا ومحمد عبد الوهاب ومن أبرز الأطياف التي تتبنى هذا الطرح "الإخوان المسلمون" و"الحركة الوهابية".

 

يُقال أن الجيل الثاني خيّر الهجرة للوصول للحكم وتأسيس ما أطلق عليه بجهاد عالمي مسوغة في ذلك نظرية قتال العدو البعيد قبل العدو القريب.

 

يعود هذا الجيل إلى طرح السيد قطب فالجهاد وسيلة للتغيير خصوصا إثر ما مرّ به الإخوان في مصر من صعوبات وتضييقات آلت لمواجهات مع النظام آنذاك. وتحولت إلى ماحقات وسجون.

 

إن الإسلام الحركي إن صح التعبير وهنا لم أتجاوز حدود نص الدكتور عبيد خليفي تبقى في مفهوم جهاد القتال بهدف تحقيق مشروع سياسي والوصول إلى السلطة أو الحكم واتفق ذلك الهدف مع الملجأ الملائم "أرض خرسان" أو "أفغانستان" فقام عبدا لله عزام بتبني ما جاء في كتاب معالم في الطريق للسيد قطب وحول الأمر إلى غزوات وأفعال عولمت "الجهاد" ليصبح العدوان المباشر في 11 سبتمبر 2001 حدثا يجسد قتال العدو البعيد قبل القريب.

 

يؤكد الدكتور عبيد خليفي على أن الجيل الثالث إنما جاء ظهوره مرتبطا بتفكك تنظيم القاعدة وفشل أطروحة مركزية العمل الجهادي في أرض خرسان وانتقال الجهاديين إلى العراق والسودان وغيرهما من الدول وتحوّل هذا الجهاد من جهاد المركز إلى جهاد الأطراف ومن جهاد الكل إلى جهاد الأجزاء، وقد نجح المشروع نسبيا في تجميع شتاته إثر غزو العراق في 2003 واستقطب التنظيم هناك فئات شبابية مهمشة احتمت بما يمكن اعتباره الدعاية للمقاومة الإسلامية التي تطورت ميدانيا في حدود المثلث السني وتحوّلت من جهاد إمارة أو جماعة إلى جهاد دولة أو خلافة .

 

تراوح النقاش والتطارح بعد العرض المنهجي الذي تولاه لمدة جاوزت النصف ساعة بدقائق المؤلف الدكتور عبيد خليفي (خلال تقديمه لكتابه ضمن الأنشطة  الفكرية للمركز التونسي للدراسات والبحوث حول الإرهاب) إزاء  الحدث المفصلي الذي نعيشه مباشرة من فعل حركة"حماس" وارتباطها بالمرجعية الإسلامية.

 

وكان هذا الحدث فرصة لتدقيق المفاهيم ومسار البحث الذي تولاه كتاب الجهاد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة ووضع الفوارق بكل صرامة حتى ننأى بمواجهة حركة حماس وذراعها العسكري للمحتل / الكيان الصهيوني عن كل وسم يدخلها ضمن مفهوم الجهاد للحركات الجهادية في المؤلف، بإبراز مشروعها المحلي أولا ومقاومتها المستعمر باعتبارها حركة تحرر وطني ثانيا.

 

ولعل من أهم ما رشّح من نقاش تراوح بين السؤال والإثراء والتعليق والردود هو أن للحركات الإسلامية المعاصرة امتداد في التاريخ الذي ذهلت منه ما يبني لها أسسا دينية وعقدية فكانت تختار من السيوف ما يكفيها كمشغل يبرّر وجودها.