السجن في قبضة الإرهاب- الجزء الأول

وفاء عليبي
الكاتبة العامة للمركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب محامية وباحثة

 

لم يكن محض صدفة أن تستيقظ تونس في صباح غرة نوفمبر 2023 على وقع فرار خمسة من الإرهابيين من السجن الأكثر تحصينا في تونس، والذي خبروا مجالات الإرهاب الأشد خطورة، فقد كان واضحا أن النظامين القانوني والسجنى في منظومة مكافحة الإرهاب يعانيان من نقائص فادحة، ليس فقط على مستوى التشريعات والممارسة والمعدات، بل على مستوى الأعوان الذين تم اختراقهم لسنوات عبر الإنتدابات الموجهة، ومن خلال التعيينات على قاعدة الولاءات للأطراف السياسية التي تربطها علاقات جوفية مع الإرهاب.

 

خلال سنة 2016، وهي الإحصائية الأخيرة المعلومة، كان السجن المدني بالمرناقية يئن تحت وطأة 1600 إرهابي بين موقوفين ومحكومين، فقد واجهت ولا تزال السجون معضلة توزيع الارهابيين بين السجون، أو تجميعهم في سجن واحد، ويبدو أن الكفة مالت لسياسة التجميع في اغلب الأوقات مع وجود استثناءات في بعض الحالات لأسباب مبررة.

 

وحيث اتجهت السياسة السجنية الى تصنيف الإرهابيين الى ثلاث كتل سجنية:

الإرهابيون الأشد الخطورة، مثل القيادين وأمراء المجموعات والخلايا، والذين كانوا يوضعون في الاغلب في غرف منفردة[1]، وهذا منطقي بالنظر الى خبرتهم في الاستقطاب والتأثير على حديثي الانضمام وصغيري السن وضعيفي التكوين الفكري والديني والسياسي.

 

الإرهابيون الخطرون الذين شاركوا في عمليات إرهابية ويتم وضعهم في غرف مخصصة مع مراعاة طاقة استيعاب السجن والحرص على ألا يكون العدد كبيرا لتفادي مخاطر هذه العملية.

 

الإرهابيون الأقل خطورة والذين يمكن أن يكونوا محل تتبع أو محاكمة من أجل الإشادة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يتم توزيعهم حسب السن مع مراعاة تكوينهم والحرص على عدم تعريضهم الى أي من أنواع الاستقطاب من طرف المجموعة الأولى أو الثانية.

 

غير أن هذه السياسة السجنية تعاني من مخاطر شديدة لعل أهمها محاولات استقطاب المساجين لأعوان السجون ومحاولات الفرار الجماعية وإدخال أو اخراج المعلومات من وإلى السجن، والاعتداء على مساجين الحق العام وفرض النفوذ، الاضراب الجماعي[2]، وكذلك محاولات استهداف الوحدات السجنية، وتواصل عائلات المساجين فيما بينهم للتحريض على القيام بالعمليات الإرهابية.

في ظل كل هذه المخاطر المحيطة بأعوان السجون، يمكن التأكيد على أن جميع السجون تعاني من الاكتظاظ، أي أنها تتجاوز طاقة الاستيعاب في أغلب الأوقات بنسبة 120 في المائة، كما أن نظام الإقامة الجماعية يولد صعوبة السيطرة على الإرهابيين، خاصة مع تواصل النقص الفادح في وسائل العمل، فقد قدّر المختصون أن المساحة المخصصة لكل سجين في السجن المدني بالمرناقية تتراوح بين 1.6إلى 2.7 متر مربع.

 

ويمكن التصريح أن المؤسسات السجنية بتونس عرفت ثلاث استراتيجيات متتالية خلال العقود الثلاث الماضية:

 

قبل سنة 2000، لم يكن بالمؤسسات السجنية إرهابيين، وبالتالي لم تواجه تونس كيفية التعامل معهم، وذلك راجع إلى أن الحركة الإرهابية التونسية قد نشأت في المنافي، لم تدخل السجون التونسية بعد في تلك الفترة.

 

من سنة 2003 الى سنة 2012 تم الاعتماد بشكل شبه كلي على سياسة عزل الارهابين داخل السجن، وهي الطريقة التي بمقتضاها لا يحق للإرهابيين التعامل مع بقية مساجين الحق العام، ومنعهم من الاختلاط بهم، وهي المرحلة التي تمت متابعة الاستقطاب الإرهابي داخل السجون بعناية شديدة.

 

بداية من سنة 2013 تم التوجه لسياسة توزيع الإرهابيين داخل السجون وهو ما سمح باختلاطهم مع مساجين الحق العام، وفتح المجال لاستقطاب مساجين الحق العام.

 

والجدير بالذكر أن بعض الدول ومن بينها المغرب قد انتهجت سياسة العزل الشامل والعام بإحداث سجون خاصة شديدة الحماية لضمان أمن السجون وتفادي التحريض والاستقطاب والتمرد والعصيان ومنع اختراق مساجين الحق العام، غير أن ذلك لم يمنع عملية فرار 10 إرهابيين سنة 2014.

 

ولذلك يمكن القول أن السياسة السجنية في تونس قد انتقلت إلى التوزيع مع الحد من المخاطر بعزل القيادات والزعامات، وتخصيص غرف جماعية للإرهابيين الذين شاركوا في عمليات.

 

وعموما يمكن القول أن الإدارة السجنية قد اعتمدت على معايير تم الاتفاق عليها داخل اللجنة الوطنية للتصنيف وإعادة التصنيف[3] وهي مؤسسة طيفية لا يمكن الاطلاع على أعمالها، وقد تمت تسميتها بمعايير خطورة الجرائم الإرهابية وهي: الأداة المستعملة في الجريمة، إذ يختلف الأمر بين الإشادة بالجرائم الإرهابية وبين استعمال السلاح، صفة الفاعل وصفة المتضرر ، وهي من العناصر الموضوعية التي يتم من خلالها التعرف على الدافع وركن الإضمار وتوقيت العملية الإرهابية والغاية منها، عدد المعتدين، وهو معطى يمكن من خلاله التعرف على معطيات أخرى خاصة بالإرهابيين مثل الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، ودرجة التأثر بالظاهرة الإرهابية، ومدى الارتباط بالعناصر القيادية داخل وخارج تونس، أما المعيار الرابع فهو مدة الحكم أو نوعية القضية موضوع الإيقاف، فهي من العناصر التي يمكن الاعتماد عليها لتصنيف درجة خطورة الارهابيين، أما المعيار الخامس فهو العود أي أن يكون الإرهابي قد سبق له التعرض لعقوبة بالسجن من أجل نفس النوع من الجرائم، وهو معيار يثبت مدى تشبث الإرهابي بالجرائم التي باشرها ومدى انغماس هويته الإرهابية في ضميره ومعتقداته، أما المعيار السادس فهو الحالة الصحية والنفسية وسلوكه عند الإيقاف أو خلال قضائه لمدته السجنية السابقة، وهو المعيار الذي يمكن من خلاله لأعضاء اللجنة الوطنية للتصنيف وإعادة التصنيف اقتراح الادماج ضمن أي من برامج التأهيل بإدارة الإصلاح التابعة للإدارة العامة للسجون وللإصلاح الملحقة بوزارة العدل.

 

وقبل الخوض في تفاصيل المعطيات المتعلقة بكل واحد من الإرهابيين الذين شاركوا في عملية الفرار أو المغادرة أو التهريب أيّا يكن التسميات من السجن المدني بالمرناقية، يجدر التنويه أن المركز التونسي للبحوث والدراسات حول الإرهاب، لن يقدم في هذه الورقة البحثية اي  معطيات قضائية لم يتم التداول في شأنها بجلسات علنية، مثلما ينص عليه القانون، وخاصة الفصول من 54 الى 62 ومن 71 الى 77 من القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 07 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والمعدل في جانفي 2019، وكذلك الفصل 61 من المرسوم عدد 115 المؤرخ في 02 نوفمبر 2011 المتعلق بحرية الصحافة والنشر والطباعة.

 

 

علاء الدين الغزواني

ومجموعة " وأعدوا لهم"

 

في 13 نوفمبر 2018، تمكنت أحد الفرق المختصة في مكافحة الإرهاب من التعريف بصاحب الحساب الإلكتروني الذي تم إنشاؤه على تطبيقة التليغرام وكان يحمل اسم الثقب الأسود، وقد تبين أنه أحد المختصين في تطوير البرامج والمواقع على الانترنت.

 

وخلال إستنطاقه صرح أنه تأثر بداعش منذ أكثر من سنتين، وتمكن من التواصل مع عديد العناصر التابعة والناشطة صلب تنظيم داعش، وإنتمى الى مجموعة "وأعدوا لهم"، وهي مجموعة تتبادل الخبرات فيما بينها حول المتفجرات وتطوير الأسلحة وكيفية القيام بعمليات نوعية من خلال إعتماد طريقةالذئاب المنفردة[4].وصار منذ سنة 2017 يقوم بتجارب في صنع المتفجرات تكللت بالنجاح.

 

وتبيّن أن مجموعة "وأعدوا لهم" متكونة من عناصر إرهابية من العراق وسوريا وليبيا وتتضمن أكثر من ثلاثين عنصر في الجبال التونسية. وقد كان من ضمنها الإرهابي مراد الغزلاني الذي تمت الإطاحة به من خلال عملية اختراق وتم القضاء عليه في الجبال التونسية في 21 أكتوبر 2018، كما تم حجز هاتفه الجوال غير القابل لاستغلال المعطيات المخزنة به، ولم تلجأ وزارة الداخلية للتعاون الفني مع أجهزة الاستخبارات الأخرى، وهو إجراء تعطل بسبب عدم الإمضاء على الإذن بالموافقة، مما أدى إلى وقوع عملية انتحارية في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة في 29 أكتوبر 2018، نفذتها الإرهابية المنتمية لنفس المجموعة منى قبلة، وبعد التثبت من المعطيات المخزنة بهاتفها الجوال تبين أنها كانت على اتصال بمراد الغزلاني، وبعد قتله أصبحت تتواصل مع نظيره خارج البلاد التونسية.

 

وقد توصلت الأبحاث الى العلاقة المباشرة بين منى قبلة وعلاء الدين الغزواني[5] وعند تفتيش منزل علاء الدين الغزواني بتاريخ 13 نوفمبر 2018، تم إكتشاف أنه كان بصدد تطوير طيارة بدون طيار بهدف تزويدها بقنبلة (درون) لإستغلالها في مشروع منسوب لداعش، بعد أن كان قد تطرق ضمن مجموعة "وأعدوا لهم" عن مشروع استغلال طائرة بدون طيار موجهة قادرة على حمل متفجرات من شأنها إرباك الدولة تؤدي إلى غلق الطريقX بالعاصمة أو إمكانية استهداف النقاط الرئيسية للتزود بالكهرباء بعبوات ناسفة، وبالتالي خلق حالة من الفوضى والهلع لدى الشعب[6].

 

والجدير بالذكر أن مجموعة "وأعدوا لهم" المرتبطة بتنظيم داعش، كانت بصدد الانتقال داخل تونس الى مستويات متقدمة من الإرهاب البيولوجي والكيمياوي[7].

 

بتاريخ 19 جوان 2020، صدر ضد علاء الدين الغزواني حكم ابتدائي بالسجن مدة عشرين عام من أجل الانضمام إلى وفاق إرهابي له علاقة بجرائم إرهابية، ومن أجل العزم المقترن بعمل تحضيري على صنع وتركيب مواد متفجرة لفائدة اشخاص لهم علاقة بجرائم إرهابية، ووضعه تحت المراقبة الإدارية مدة خمسة أعوام بداية من تاريخ قضاء العقوبة[8]، إلا أنه أثبت في صباح يوم الأربعاء غرة نوفمبر 2023 أن له راي آخر.

 

 

رائد التواتي

وإرهاب الجبال

 

حين يروي مسيرته الدموية، لا يغفل رائد التواتي عن التذكير بدور شقيقه وسيم في انحرافه نحو الإرهاب، فقد سافر وسيم إلى سوريا خلال سنة 2013، رغم أنه كان في تلك الفترة يواصل تعليمه العالي في إختصاص الهندسة وكان متفوقا، ورغم ذلك فضل السفر إلى سوريا أين إنضم إلى إحدى التنظيمات الإرهابية.

 

من خلال بعض المؤلفات التي أرشده إليها شقيقه مثل مؤلفات أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، أصبح مقتنعا بضرورة حمل السلاح ضد الدولة التي لا تحكم بما أنزل الله، وخلال شهر جوان 2014، إلتحق بصديقه إسماعيل المناعي بجبل الإحيرش بجندوبة، وخلال شهر أوت إلتقى بالإرهابي عاطف الحناشي الذي شرع في تدريبه على إستعمال السلاح، ثم التحق بمعسكر آخر بجبال الكاف أين واصل التدريب على أوضاع الرماية والزحف وإعداد الكمائن والإنسحاب أثناء المواجهات المسلحة، وقد أدّى البيعة بين يدي أبو أحمد المهاجر الجزائري الجنسية باعتباره أمير سرية الكاف لفائدة زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، آنذاك. وكانت البيعة كالتالي: أبايع الشيخ أبو مصعب عبد الودود على السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى إثرة من نفسي وعلى ألا أنازع الأمر أهله، إلا أن أرى كفرا بواحا لي فيه برهان.

 

وقد ورد بإستنطاق رائد التواتي أنه خلال سنة 2015، حدث إنشقاق بين عناصر كتيبة عقبة بن نافع، فقد بايع البعض منهم أبو بكر البغدادي زعيم داعش التي نشأت حديثا، وإنضموا إلى كتيبة أجناد الخلافة المتحصنة في جبال السلوم والمغيلة.

وصرح أن أول عملية شارك في تنفيذها تمثلت في إستهداف سيارة إدارية تابعة لمصالح الديوانة بمنطقة بوشبكة من ولاية القصرين وتم خلالها قتل عون ديوانة برتبة وكيل تم قتله بإطلاق النار عليه من أحد مرافقيه الإرهابيين. كما شارك في سنة 2015 في تصفية أحد الرعاة ويدعى عبد المجيد، لإتهامه بالتعاون مع أعوان الحرس الوطني، وشارك أيضا في اغتيال ستة أعوان الحرس الوطني في عملية عين سلطان.

 

وفي 17 أفريل 2017، تولى صحبة مجموعة من الإرهابيين وضع عبوات ناسفة في الطريق المؤدي إلى محطة الإرسال الإذاعي بجبل الشعانبي بغاية إستهداف عناصر الجيش الوطني الذين يؤمنون حراسة المحطة، وقد إستهدف العملية مدرعة تابعة للجيش الوطني لم تسفر إلا على أضرار مادية.

 

وقد أشار إلى أنه اقتنع خلال سنة 2017 بالقيام بعملية انتحارية بواسطة حزام ناسف يستهدف من خلاله مقر السفارة الفرنسية بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة أو الكنيسة المقابلة لها، وقد تحدث بخصوص ذلك مع الأمير أبو مصعب عبد الودود نفسه من خلال إتصال هاتفي، والذي أبدى موافقته على التنفيذ، وأشار عليه بالتنسيق مع أمير الكتيبة الباهي عكروت.

 

وبتاريخ 17 مارس 2023، صدر ضده حكم ابتدائي بالإعدام من أجل القتل ومحاولة القتل عمدا، مع السجن مدة 50 سنة من أجل بقية الجرائم، ووضعه تحت المراقبة الإدارية مدة خمسة سنوات[9].

 

 

 

 

نادر الغانمي

المتاهات العكسية:

من الوطن الى المنافي

 

خلال سنة 2012، كان الإرهابي أنور المي قد إلتحق بالمجموعات الإرهابية بسوريا، قادما إليها عبر مطار تونس قرطاج، إلى مطار بنغازي بضمان أبوي، ومن هناك إلى تركيا، من إسطنبول إستقل الحافلة إلى مدينة أنطاكيا الحدودية، وتجاوز الحدود بين تركيا وسوريا خلسة، ضمن المسار المعتاد للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية.

 

هناك في الأراضي السورية تم توجيهه لكتيبة البتار التابع لجبهة النصرة، فبايع أميرها على السمع والطاعة وشرع في تلقي التدريبات العسكرية، و قرّر العودة إلى تونس دون أن يشارك في المعارك لتدهور صحته، وعليه قرر أمير الكتيبة إيواءه بالمنزل التنظيمي لتلقي العلاج، دون أن يكون ذلك حائلا في إستغلال كفاءته في الإهتمام بالمطبخ ولوازمه.

في أوائل شهر أكتوبر 2013، سلك طريق العودة،بعد موافقة الأمير عبر نفس الطريق من سوريا إلى ليبيا إلى المعبر الحدودي رأس الجدير واستقر بمقر إقامته بمنزل بورقيبة.

 

كان نادر الغانمي، قد التحق لتوه بتنظيم أنصار الشريعة، بدون تاريخ أو تجربة، مغرما بأحاديث أنور المي عن تجربته القتالية/المطبخية في سوريا، فأشار عليه يوم 23 أكتوبر 2013 بعدم مغادرة الحي بمنزل بورقيبة لأنه في إنتظار تعليمات مهمة، موحيا له بأنه يحتل مكانة مرموقة في تراتبية التنظيم الإرهابي، فقد أعلمه أن ذلك اليوم أي 23 أكتوبر 2013، يوم حساس على الصعيد السياسي، مشيرا إلى أن خلايا تنظيم أنصار الشريعة في تونس بكامل تراب الجمهورية ينوُون التحرك المنظم في مناطق مختلفة، وفي أوقات متتالية للقيام بعمليات نوعية تستهدف أعوان الأمن والجيش الوطنيين[10].

 

وفي حدود الساعة الثامنة ليلا من ذات اليوم، تنقل رفقته بمعية خالد بن فرج، كان معه سلاح كلاشينكوف وآخر شطائر في حين كان خالد بن رجب يحمل أيضا سلاح شطائر، وعند مفترق معمل الفولاذ بمنزل بورقيبة فتح أنور المي النار صحبة خالد بن فرج على العونين المتواجدين داخل الخفارة، في حين إكتفى نادر الغانمي بالمشاهدة من داخل السيارة. وبعد أن تأكد أنور المي من تنفيذ المهمة عاد مسرعا إلى السيارة التي إنطلقت بعيدا عن مسرح الجريمة البشعة، وخلال عملية الفرار تفطن إلى ضياع هاتفه الجوال.

 

أسفرت العملية الإرهابية عن إستشهاد محمد التوجاني، وإصابة زميله بطلق ناري تم علاجه على وجه السرعة. غير أن أعوان الأمن عثروا على الهاتف الجوال الخاص بأنور المي بمكان الجريمة في حين غادر كل من نادر الغانمي وخالد بن فرج التراب التونسي في إتجاه ليبيا.

 

في ليبيا، وخلال شهر ماي 2014، سوف يلتقي بأحمد الرويسي المعروف بأبي زكريا، وينضم إلى تنظيمه الإرهابي المتبايعون على الموت، وذلك بمعية أبو بكر الحكيم ومهران الحكيري ونور الدين شوشان، وخالد بن فرج و عمر الهرابي المكنى الذيب صاحب الضيعة في صبراتة التي سيتم إستغلالها كمعسكر مخصص للإعداد والتحضير للقيام بالعمليات الإرهابية داخل تونس[11]، وقد تم إطلاق إسم أم يمنى على معسكر صبراتة[12].

 

قام أحمد الرويسي بخطف دبلوماسيين تونسيين، ونقلهم إلى معسكر صبراتة وكلف نادر الغانمي بحراستهم إلى حين إطلاق سراحهم لاحقا[13].

 

وخلال سنة 2015، انضم نادر الغانمي إلى مجموعة إرهابية تنشط بمدينة صبراتة أطلقت على نفسها إسم جند الإسلام، متكونة من جنسيات متعددة، كانت تعد لهجوم على مقر سفارة الولايات المتحدة بتونس المقرر ليوم 11 سبتمبر 2015، وقد تم تدريب خمسة تونسيين تم إختيارهم لتحوزهم على جوازات سفر تونسية، وتم التخطيط على إرسال مجموعة أولى مكونة من ثلاث عناصر إلى تونس، وفي صورة تمكنهم من الدخول يتم تعزيزهم بعنصرين آخرين من بينهم إمراة[14].

 

خلال تلك الفترة وتحديدا في شهر أكتوبر 2015، كانت شقيقته ريم بصدد التعرف على فتاة تدعى سميحة تشتغل بأحد المعامل بجهة منزل بورقيبة من ولاية بنزرت، وتسعى لخطبتها لشقيقها نادر الغانمي المتواجد بمعسكر صبراتة، وقد تمكنت من جمعهما إلكترونيا عبر تطبيقة السكايب في عديد المرات.

 

تمسكت سميحة من الزواج بنادر الغانمي، وقررت السفر إلى ليبيا للالتحاق به، وإضطرت والدتها التي تلقت مكالمة من أمن الحدود برأس الجدير إلى التصريح لها بالمغادرة هاتفيا بدعوى إلتحاقها بخالها[15].

 

وبعد عدة أشهر علمت شقيقته ريم أن نادر الغانمي قد انتقل إلى مدينة الرقة السورية صحبة زوجته، وقد صدرت في شأنه عدة أحكام من بينها حكم بالإعدام في قضية إستهداف الأعوان بمفترق معمل الفولاذ بمنزل بورقيبة في 23 أكتوبر 2013.

 

عامر البلعزي

من قضايا الحق العام الى الإرهاب

 

بدأت محاكماته من أجل السرقة والعنف مبكرا في الضاحية الجنوبية للعاصمة، وكان شديد الإنحراف وعنيف جدا، مستغلا في ذلك بنيته الجسدية الهائلة، ولذلك إنتبه له مصطفى خذر المشرف على الجهاز السري لحركة النهضة، وسعى إلى ضمه إلى قائمة المنحرفين والمجرمين التي تعول عليهم النهضة للإعتداء على خصومهم السياسيين في المظاهرات والتحركات الإحتجاجية، كما هو الحال في 07 و09 أفريل 2012، وفي الإعتداء على المقرات مثلما هو الحال في 04 ديسمبر 2012.

 

يقوم بالتحيل على المجموعات الإرهابية المرافقة للإرهابي كمال القضقاضي ويتحصل منهم على مبلغ 1600 دينار متعهدا بتوفير دراجة نارية لكمال القضقاضي، بين شهري أكتوبر ونوفمبر 2012، فقد كان عامر البلعزي يملك دكان لإصلاح الدراجات النارية في منطقة الزهراء بالضاحية الجنوبية[16].

 

لاحقا سوف يتورط مع تنظيم أنصار الشريعة وخاصة منهم محمد العوادي المكنى الطويل ومحمد العكاري المكنى لافايات ومحمد الخيار المكنى أوس،في إخفاء المسدسين بريتا 9 مليمتر، ومسدس براولينغ 38، المستعملين في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، خلال سنة 2013[17].

 

تعلل أثناء استنطاقه، بأنه تعرض للتعذيب،رغم أنها، أي عملية الإستنطاق كانت سمعية بصرية، بالإضافة الى المحضر الكتابي. وفي ملابسات غامضة لا تزال محل بحث تحقيقي إختفت محاضر سماعه ومعها الصور الرقمية التي تثبت عملية البحث عن المسدسين بالبحر، ومعها محضر استنطاقه، وفي المقابل تنازل عامر البلعزي عن تتبع أعوان الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب بالعوينة الذي زعم أنهم قاموا بتعذيبه. وقد وجهت له تهمة المشاركة اللاحقة في القتل بالإضمار في ملف الشهيد محمد البراهمي من أجل إخفاء المسدسين المستعملين في الإغتيال.

 

خلال سنة 2019 تورط في سرقة سيارة بمنطقة الزهراء بإستعمال التهديد، غير أنه سرعان ما أُوقف، ومجددا نسب لأعوان الامن تعرضه للتعذيب، غير أن ذلك الأسلوب لا يمكن ان ينجح في كل مرة.

 

ويمكن القول أن عامر البلعزي إرهابي بالصدفة، قادته جرائمه إلى ساحة الإرهاب التي وفرت له الحماية مقابل خدمات عنيفة كان في إستطاعته تقديمها في كل حين، فلا سيرته الإجرامية، ولا محيطه العائلي، ولاتكوينه الفكري والسياسي يسمحون له بتسلق أسواء الإدّعاء حتى بالمعرفة المشوهة أي الفهم الإرهابي للدين.

 

والجدير بالذكر أن علاقة مجرمي الحق العام بالإرهاب تستحق الإهتمام والدراسةـ، خاصة مع حالة التجاذب المتبادل بين الظاهرتين.

 

تمت محاكمة عامر البلعزي وإيداعه السجن خلال شهر سبتمبر 2013، من أجل إيوائه لمحمد الخياري المكنى أوس بواسطة صفوان الميغري، وبعد أيام تم إخراجه من طرف الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب بالعوينة، وبعد إستنطاقه وإعترافه بإلقاء المسدسين بالبحر بالمنطقة البحرية الواقعة بين حلق الوادي والشاطئ الزهراء والمعروفة بالباقة الهجالة[18]. وهي عبارة عن علامة تحمل إشارة للسفن المارة من هناك. لم يتم الحكم عليه إلى حد هذا التاريخ في خصوص دوره في طمس معالم جريمتي الإغتيال الخاصة بالشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

 

أحمد المالكي المكنى بالصومالي

والبحث عن دور

 

صرح أحمد المالكي المكنى الصومالي خلال استنطاقه في سنة 2021 أنه قد صدر في شأنه حكم أول بالسجن مدى الحياة وحكم آخر بالسجن لمدة 24 سنة في حين لا يزال موقوف على ذمة قضيتين الأولى خاصه بالشهيد شكري بلعيد، والثانية بالشهيد محمد البراهمي[19].

 

لم ينجح في دراسته، التي لم يتجاوز فيها الخامسة ثانوي بمعهد الوفاء بحي الغزالة، ولم ينجح في الإندماج في مجال العمل بعد حصوله على شهادة تكوين في ميكانيك الآليات الثقيلة التي تلقى تكوينا مهنيا فيها بجهة المرناقية، ولم ينجح في مجال تغليف الصالونات، فقد إضطر إلى غلق محله خلال سنة 2013 والذي كان إفتتحه خلال سنة 2009، ولم ينجح في سوريا التى تحول إليها في بداية سنة 2013، وعاد منها خلال بداية شهر جويلية، رغم أنه إنضم الى تنظيم داعش وتدرب على  السلاح، وشارك في المعارك هناك،  ليقوم برصد الشهيد محمد البراهمي لفائدة أبوبكر الحكيم.

 

في شهر فيفري 2014، وكان لا يزال في حالة فرار منذ اغتيال الشهيد محمد البراهمي، تم إلقاء القبض عليه في القضية المعروفة بحي النسيم التابعة لخلية رواد على إثر تصفية كمال القضقاضي وعلاء الدين النجاحي وآخرين في الليلة الفاصلة بين 03 و04 فيفري 2014.

 

وقد صرح أحد المتهمين أنه علم عن وجود تحضير وإعداد من طرف المظنون فيه أحمد المالكي الذي إلتقى به بجامع الزغواني خلال سنة 2013 أنه تم ترتيب أمر إغتيال الشهيد محمد البراهمي، والإنسحاب بإستعمال دراجة نارية[20].

 

يذكر أحمد المالكي المكنى بالصومالي تفاصيل يوم 25 جويلية 2013، فيقول إنه وخوفا من إيقافه اتصل بصديقه أشرف الزمني الذي قام بنقله الى مستودع بأحد الحضائر بجهة رواد، وتحول بعد يومين إلى منزل تابع للإرهابي أيمن التليلي بجهة رواد أيضا والذي مكث فيه لمدة أسبوع، وفي الأثناء اتصل به الارهابي هيكل بدر وعرض عليه مساعدته في إيجاد محل للإقامة به، وتحول وفق الإتفاق الى مستودع كائن بجهة حي النسيم برواد ثم تحول لاحقا إلى منزل بنفس الحي خلف مركز البريد، أين تم القاء القبض عليه في 08 فيفري 2014[21].

 

بعد أكثر من سبع سنوات سجن، وبعد أن تمكن من الفرار من السجن المدني بالمرناقية، اكتشف أنه أصبح وحيدا، بدون سند أو ظهر، غريبا ومطاردا، ليس من الأمن فقط، وسقط هشا وضعيفا في قبضة المواطنين في منطقة حي التضامن يوم الأحد 05 نوفمبر 2023، التي اعتقد أنها ستكون حاضنته الشعبية خلال مسارات تيهه الأخيرة، ليدرك دون عناء مصير من صاحبه في متاهات الفرار ولو بعد حين، فليس للإرهاب في تونس حاضنة اجتماعية أو شعبية، بل فقط حاضنة سياسية تآكلت حين مارست السلطة واكْتَوَتْ بنارها.

و في صبيحة السابع من نوفمبر 2023 تم إلقاء القبض على باقي العناصر الإرهابية الأربعة كل من علاء الدين الغزواني ، رائد التواتي ، نادر الغانمي و عامر البلعزي ليعود جميعهم إلى مكانهم الطبيعي


[1]خلال زيارة لأعضاء الرابطة التونسية للدفاع على حقوقالانسان خلال سنة 2017 تمت معاينة أن الإرهابية فاطمة الزواغي نزيلة بالسجن المدنيبصفاقس في غرفة منفردة.

[2]مثلما حدث في اضرابات 2012 و2014 و2020.

[3]لجنة لم يتم نشر أمر إنشائها بالرائد الرسمي، ولم تنشرأية معطيات أو احصائيات ولم يذكر وجودها في أي وثيقة رسمية منشورة، فهي منالمؤسسات الطيفية في المنظومة القانونية التونسية على غرار القطب الأمني لمكافحةالإرهاب، وتتكون من ممثلين عن الإدارة العامة للسجون (في الأغلب أحد مديريالمؤسسات السجنية) وممثل أو أكثر عن وزارة العدل وممثل أو أكثر عن وزارة الداخليةوربما غيرهم.

[4]تم التنظير للذئاب المنفردة في تنفيذ العمليات الإرهابيةفي كتاب أبو مصعب السوري: دعوى المقاومة الإسلامية العالمية، الجزء الثاني الدعوةوالمنهج والطريقة، طبعة 2014.

[5]تقرير صادر عن الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهابعدد 8042/إ/.ف. أ بتاريخ 12/11/2018.

[6]محضر استنطاق علاء الدين الغزواني عدد 1281 بتاريخ 13نوفمبر 2018.

[7]وثيقة استخباراتية وردت على وزارة الداخلية من وكالةالأمن القومي بتاريخ 14 أكتوبر 2018 مكونة من أربعة صفحات، متعلقة باعتراض اتصالاتعلى المستوى الدولي شملت دول تونس والأردن والسودان وليبيا وسوريا كشفت أنالإرهابي مراد الغزلاني المكنى سيف الأنصاري تابع لتنظيم داعش ولا علاقة له بكتيبةجند الخلافة، وهو قائد لكتبية أنشأها حديثا بتونس تحمل اسم كتيبة التوحيدوالجهاد، وتتكون من 30 إرهابي من بينها منى قبلة والتي ثبتت علاقتها بمجموعة"واعدوا لهم" وخاصة علاء الدين الغزواني.

[8]حكم ابتدائي عدد 43875 الصادر عن الدائرة الجنائيةالخامسة بالابتدائية بالمحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 19 جوان 2020.

[9]قضت المحكمة في القضية عدد 45051 الصادرة عن الدائرةالجنائية الخامسة بالمحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 17 مارس 2023 بالإعدام علىرائد التواتي ويضاف للإعدام السجن مدة 10أعوام من أجل جريمة الانضمام عمدالتنظيم إرهابي داخل تونس له علاقة بالجرائم الإرهابية، ومدة 10أعوام من اجلالانضمام عمدا الى تنظيم إرهابي خارج تونس له علاقة بجرائم إرهابية، كسجنه مدة 10أعوام منأجلتلقيتدريبات داخل تراب الجمهورية بقصد ارتكاب جرائم إرهابية، كسجنهمدة 10 أعوام من أجل توفير مؤونة لفائدة وفاق إرهابي له علاقة بجرائمإرهابية: وسجنه أيضا مدة 10 أعوام من أجل وضع كفاءات وخبرات على ذمة وفاقإرهابي له علاقة بجرائم إرهابية، يضاف الى ذلك وضعه تحت المراقبة الإدارية مدةخمسة سنوات

[10]محضر استنطاق أنور المي المكنى أبوزيد التونسي، عدد 689لدى الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب بتاريخ 25 أكتوبر 2013.

[11]قرار ختم البحث عدد 30884/31 بمكتب التحقيق 31 التابع للمحكمة الابتدائية بتونس.

[12]يقصد "بأم يمني"محرزية بن سعد زوجة الإرهابي رضا السبتاوي التي ماتت أثناء استهداف منزلها من طرف قوات الأمن في الليلة الفاصلة بين 29 و30 ديسمبر سنة 2012.

[13]قرار دائرة الاتهام عدد 50 الصادر عن دائرة الاتهام 34 بمحكمة الاستئناف بتونس في 31 ديسمبر 2015.

[14]قرار دائرة الاتهام عدد 425 الصادر عن دائرة الاتهام 34 بمحكمة الاستئناف بتونس في 02 فيفري 2002.

[15]قرار دائرة الاتهام عدد 1617 الصادر عن دائرة الاتهام 34 محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ غرة فيفري 2018.

[16]قرار دائرة الاتهام عدد 92487/9 الصادر عن دائرة الاتهام التاسعة بالمحكمة الابتدائية بتونس في 04 جوان 2014، والمتعلق بالشهيد شكري بلعيد.

[17]قراردائرة الاتهام عدد 91547 المتعلق بملف اغتيال الشهيد أنيس الجلاصي.

[18]قراردائرة الاتهام عدد 51 الصادر عن دائرة الاتهام 34 بمحكمة الاستئناف بتونس بتاريخ28 ماي 2020.

[19]قرار ختم البحث عدد 4582/12 الصادر عن حاكم التحقيق الأول بالمكتب الثاني عشر بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب التابع للمحكمة الابتدائية بتونس المؤرخ في 20 أفريل 2021.

[20]نفس المصدر السابق.

[21]قرار دائرة الاتهام عدد 278/34 الصادر عن دائرة الاتهام 34 بمحكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 07 أفريل 2016.